NORTH PULSE NETWORK NPN

مثلّثُ الضّالعين في الهجوم على سِجنِ الصّناعَةِ يبتلع أصحابه

نورث بالس

 

بقلم: حسين عفريني

 

كشفَ الهجوم الأخير لتنظيم “داعش” الإرهابيّ على سجن الصّناعة بمدينة الحسكة العديد من الخيوط المتشابكة والتّنسيق السُرّيّ بين أطراف لا تزال تدّعي محاربتها للتنظيم الإرهابيّ، وأزالت اللُبسَ والغموض عن الأدوار الخبيثة التي تلعبها في إعادة الأزمة السُّوريّة إلى المربَّع العنفيّ الأوّل، علناً وفي الخفاء.

 

التحليل المنطقيّ للحدث، يتجاوز في أبعاده السِّياسيّة والعسكريّة، هجوماً على سِجنٍ يُحتجز فيه أعتى الإرهابيّين في العالم، ليغدو رهانات قوى وأطراف متعدّدة على تحرّك التَّنظيم الإرهابيّ الوظيفيّ، في تحقيق ما عجزت هي عنه في صولاتها وجولاتها السّابقة من نصرٍ ولو “مؤقّت” ضُدَّ الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، على الصعيدين العسكريّ والسِّياسيّ. وأيُّ تفسيرٍ خارج هذا الإطار يبقى قاصراً ولا يُعبِّرُ عن حقيقة ما جرى ويجري على الأرض.

 

يبدو للوهلة الأولى أنَّ تركيّا التي التزمت الصَّمت “الإعلاميّ” – نوعاً ما – تجاه الحدث الذي حَرَّكَ العالم أجمع، إنَّما يَنُمُّ عن مَكرٍ وخداعٍ للرأي العام التركيّ والعالميّ أيضاً، فتحرُّكُ طائراتها المُسيّرة واستهدافها لرتلٍ من مجلس تل تمر العسكريّ، والهجوم البرّيّ والجوّيّ الواسع ضُدَّ نقاط وتمركزات قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في عين عيسى وتل تمر وزركان، وكذلك في مناطق الشَّهباء، إنَّما هي رسائل واضحة بأنَّها تَمُدُّ طوقَ النَّجاة لتنظيم “داعش” الإرهابيّ، في وقت بدأت تلوح في الأفق ملامح فشل العمليّة. وكُلُّ الاعتقاد أنَّ تركيّا الآن مشغولةٌ في ارتدادات فشل العمليّة عليها وعلى مرتزقتها، ورُبَّما كانت – أي العمليّة – الورقة الأخيرة التي ترميها ضُدَّ الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، لطالما أنَّها لم تتمكّن من نيلِ الضوء الأخضر لشَنِّ عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا في الأشهر القليلة الفائتة.

 

لا شَكَّ أنَّ عمليّة الهجوم على السِّجن تقف وراءها قوى وأجهزة استخبارات دول كبيرة، والتَّنظيم الإرهابيّ بعد الضربة النّهائيّة التي تلقّاها في الباغوز في مارس/ آذار 2019، والحملات المستمرّة ضُدَّه من قبل (قسد) وكذلك من قبل الجيش العراقيّ، بات في وضع لا يملك فيه إمكانيّة التَّخطيط وتوفير الدَّعم اللوجستيّ والعتاد لتنفيذ هكذا عمليّة، فضلاً عن عجزه في توفير الملاذات الآمنة له للتحرّك ضمن مدينة كبيرة مثل الحسكة، مثل عمليات الاختباء والتمويه، دون ضلوعِ أجهزةِ استخبارات تُناصب العداء للإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.

 

وفق بيانات المركز الإعلاميّ لـ(قسد) معظم المُهاجمين على السِّجن تلقّوا تدريبات في المناطق التي تحتلّها تركيّا، وخاصّة في رأس العين وتل أبيض، وبإشراف ضبّاط استخبارات أتراك. والاعترافات التي أدلى بها المعتقلون أكَّدت على أنّ تركيّا هي الضلع الأول في مثلّث التخطيط للعمليّة، وهو الأقوى.

 

كما أنَّ حكومة دمشق من خلال بيان وزارة الخارجيّة المُخزي، أشار بوضوح أنَّه يشكّل الضلع الثّاني في مخطّط الاستهداف، ورُبَّما اعتبره بوّابة للنَّيل من الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، لطالما ماطلت – ولا تزال – في قبولها بإطلاق حوار وطنيّ بينها وبين الإدارة. فالخطاب الإعلاميّ لدمشق الذي يحاول قلب الحقائق وتوجيه شتّى الاتّهامات الباطلة إلى الإدارة و(قسد) لم تتوقّف، وازدادت وتيرتها بعد الهجوم على السِّجن، خاصّة عندما ادّعى أنَّ المهاجمين هم مجموعات ممّن يُسمّيهم “المقاومة الشَّعبيّة في الجزيرة” وما إلى ذلك من تسميات. حقّاً إنَّه لأمرٌ مؤسفٌ أن تطلق حكومة دمشق على العمليّات التي تخوضها (قسد) ضُدَّ إرهابيّين نكّلوا بالشَّعب السُّوريّ اسم “جرائم ضُدَّ الإنسانيّة”، رغم أنَّه هو أيضاً يتلقّى، وبشكل يوميّ، ضربات قاتلة من التَّنظيم الإرهابيّ. فكان حَرِيٌّ به أن تقف مع (قسد) في محاربة هؤلاء القتلة، لا أن يتوارى خلف أزمة النّازحين، ويدافع عن التَّنظيم الإرهابيّ بشكل وَقِحٍ وفجٍّ، رغم أنَّه اعتقل عدداً من النّازحين إلى منطقة سيطرته داخل مدينة الحسكة بحجج وذرائع واهية لا يقبلها العقل.

 

لقد وضعت الخطوط العريضة لهذا الهجوم أثناء انعقاد اجتماع أستانا الأخير، فالبيان الختامي للاجتماع هاجم بشكل غير مسبوق الإدارة الذاتية، واتهمها بشتّى التُّهم الباطلة، نزولاً عند رغبة الراعيين التركيّ والإيرانيّ، وانساقت روسيّا أيضاً معهما، لتحرّك تركيّا أذرعها الإرهابيّة في سوريّا وتبني أحلامها على العمليّة.

 

من جانبه ما يُسمّى بـ”الإئتلاف السُّوريّ”، لم يخفِ القائمون عليه تضامنهم مع التَّنظيم الإرهابيّ، فتصريحات مسؤوليه ممّن ادّعوا أنَّ المهاجمين هم من “أبناء العشائر في الجزيرة”، وأنهم يعرفونهم بشكل جيّد، فإنَّما يَدُلُّ على احتضان الإئتلاف الذي يسيطر عليه “الإخوان المسلمين” للتَّنظيم الإرهابيّ ورعايته له. وحاول الإئتلاف بثَّ فتنة عرقيّة بادّعائه أنَّ المهاجمين إنَّما يستهدفون “الكُرد”، تماشياً مع رغبة راعيهم التركيّ، رغم أنَّ ضحايا الإرهاب في سوريّا هم من الكُرد والعرب وجميع المكوّنات، فالإرهاب لا دين له ولا قوميّة ولا حدود.

 

الموقف الرّوسيّ هو الآخر بدا ملتبساً، واتَّهم قوّات التَّحالف باستهداف منازل المدنيّين، رغم أنَّ الطائرات الأمريكيّة قصفت السِّجن وكليّة الاقتصاد التي تحصّن فيها الإرهابيّون. وكأنَّ روسيا تسعى للتشفّي والانتقام من الولايات المتّحدة في أزمتها معها في أوكرانيا على مناطق شمال وشرق سوريّا، فلم تأتِ على ذكر الإرهابيّين وأفعالهم الشَّنيعة.

 

الولايات المتّحدة من جانبها أبدت اهتماماً لا بأس به بالهجوم الإرهابيّ، والبيانات الصادرة عن خارجيّتها والبنتاغون أكَّدت وقوفها مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في إحباط الهجوم، وأبدت دعمها لها، لكنَّ هذا الموقف لم يرتقِ إلى المستوى المطلوب للتَّعامل مع هكذا هجوم إرهابيّ ضخم أُعِدَّ له بعناية، وكان من المُفترض أن تبديَ مقاربةً سياسيّة وعسكريّة أفضل، من قبيل المشاركة الفعّالة في صَدِّ الهجوم، وكشف الأطراف المتورّطة في دعم الإرهابيّين والتخطيط للعمليّة، على اعتبار أنَّها دولة عظمى ولديها الإمكانيات العسكريّة والاستخباراتيّة في كشف خفايا الهجوم، والضغط عليها للكفِّ عن تهديد الإدارة الذّاتيّة.

 

بالمقابل تعاملت قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة مع الهجوم بمنتهى الدقَّةِ والخبرة العسكريّة الاحترافيّة والسِّياسيّة، عبر استخدامها أساليب متعدّدة في القتال وفرض طوقٍ مُحكمٍ على المناطق التي تحصّن فيها الإرهابيّون، وتمكَّنت خلال فترة قصيرة من مُحاصرة الإرهابيّين، وإجلاء المدنيّين وإيصالهم إلى المناطق الآمنة الواقعة تحت سيطرتها.

 

التَّعاطي الإعلاميّ ونشر المعلومات الدَّقيقة، جاء بشكل منسّق وبمهنيّة عالية، دون الوقوع في أخطاء أو حدوث نوع من الارتباك والتخبّط. فرصدُ وقائع المعارك والاشتباكات لحظة بلحظة يتطلّب خبرة كبيرة، إضافة إلى اختيار الخطاب المناسب الذي يبعث الطمأنينة بين النّاس.

 

اتّباع (قسد) أسلوب عدم الإفراط في استخدام العنف، وحصره في أماكن محدّدة، جعلها تكسب ثقة واحترام جميع أبناء المنطقة، إلى جانب إظهار الجانب الإنسانيّ في تعاملها مع الإرهابيّين ممّن سلّموا أنفسهم لهم.

 

لقد ذهبت كُلُّ رهانات المثلّث الضالع في العمليّة أدراج الرِّياح بمقاومة قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وكُلّ مكوّنات شمال وشرق سوريّا، رغم أنَّ المخطّط كان يهدُفُ إلى أبعد من سجن الصّناعة، حيث كشفت (قسد) أنَّ العمليّة وَضَعَتْ نصب أعينها السَّيطرة على كُلٍّ من الحسكة وتل تمر، ومن ثُمَّ مخيّم الهول لإطلاق سراح عوائل الإرهابيّين، وفتح الطَّريق أمام قوّات الاحتلال التركيّ للتمدّد إلى الحسكة، وتوجيه ضربة قاصمة للإدارة الذّاتيّة.

 

بالتأكيد ما قبل الهجوم على سِجنِ الصّناعة لن يكون كما بعده، إنْ كان من جانب الإدارة الذَّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، أو المجتمع الدّوليّ، وخاصّة قوّات التّحالف الدّوليّ لمكافحة “داعش”، لجهة لزوم تقديم مزيد من الدَّعم لهما، وضرورة تشكيل محاكم دوليّة لمقاضاة هؤلاء الإرهابيّين، ونقلهم إلى بلدانهم التي جاؤوا منها، وهذه تعتبر أولويّة قصوى لا تقبل التأجيل والتسويف بأيِّ حالٍ من الأحوال.

 

يقين الشّارع السِّياسيّ والشَّعبيّ، أنَّ الإدارة الذّاتيّة ومعها (قسد) ستخرج من هذه العمليّة أقوى ممّا كانت عليه، وستطوى صفحة أخرى من صفحات الإرهاب الذي يضرب مناطق شمال وشرق سوريّا، فالضربة التي لا تُميتك تُقوّيك، مثلما يقول المثل الشَّعبيّ الدّارج.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.