أردوغان يفقد توازنه في حرب غزة
نورث بالس
أصبح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاعبا مركزيا في الشؤون العالمية من خلال الموازنة بين المصالح المتنافسة، لكن في الصراع الذي يعصف بالشرق الأوسط، فإنه يخاطر بالاستبعاد من اللعبة.
ويقول المحلل السياسي التركي ريتش أوتزن ، في تقرير نشرة المعهد الأطلسي، إن أردوغان سعى إلى أن يكون صاحب التوازن الجيوسياسي الرائد في العالم، لكنه افتقر إلى التوازن في صراع غزة.
وينبع التأثير التركي جزئيا من الموقع الجغرافي المركزي الذي تتمتع به البلاد، باعتبارها قوة متوسطة الحجم بين أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوراسيا، وهو ما يستلزم ويكافئ المرونة في التعامل مع كل الجيران مع تحول التهديدات والفرص.
كما أنها تنبع من الثقافة الإستراتيجية التركية، التي أعطت الأولوية على مدى أجيال عديدة للسعي وراء النفوذ في الأزمات، واتفاقات السلام، والترتيبات التجارية، وغيرها من النتائج الجيوسياسية، من خلال المواقف التفاوضية الصبورة والبراغماتية والمتغيرة في كثير من الأحيان.
ونجح أردوغان على مدى العقد الماضي، في تطوير إتقان التوازن والسياسة الواقعية في سلسلة من الأزمات من أفغانستان إلى أوكرانيا، لكن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين يتحدى هذا التطلع إلى التأثير من خلال التوازن.
وتقدم حرب روسيا على أوكرانيا أوضح مثال على نمط أردوغان في التوازن في فن الحكم التركي. فمن ناحية، قدمت أنقرة التزامات جادة وجوهرية بشأن السيادة الأوكرانية. وقد شملت هذه الخطوات خطوات قانونية وخطابية مثل عدم الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وانتقاد الغزوات الروسية في عامي 2014 و2022. كما تضمنت أيضا دعما عسكريا قويا وتوفير مساعدات فتاكة، قبل وقت طويل من استعداد القوى الغربية لتقديم مثل هذه المساعدات.
ومن ناحية أخرى، حرص أردوغان على الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع موسكو خلال الحرب في أوكرانيا. لقد أيدت أنقرة إدانة الجمعية العامة للأمم المتحدة لروسيا، لكنها لم تدعم العقوبات الواسعة والعميقة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد عارض أردوغان الجهود الغربية الرامية إلى عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دبلوماسيا، واستمر في إشراكه في مجموعة متنوعة من القضايا. وقد زادت التجارة الثنائية التركية الروسية منذ الغزو الروسي واسع النطاق.
وخلال الحرب الحالية في غزة، كما حدث خلال أزمة غزة 2008-2009، تخلى أردوغان عن الخطاب الحذر والتعامل مع طرفي الصراع، واختار بدلاً من ذلك إلقاء ثقله بأغلبية ساحقة خلف جانب واحد، في هذه الحالة، جانب الفلسطينيين.
وفي حالة الفلسطينيين، اتبعت أنقرة أولا موقفا متوازنا، لكنها تخلت عنه في نهاية المطاف. وكانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بالدولة الإسرائيلية، وحافظت على علاقات ودية مع إسرائيل طوال سنوات الحروب العربية الإسرائيلية في الأعوام 1956، و1967، و1973، و1982.
وكانت فترة التسعينيات بمثابة “العصر الذهبي” للتنسيق الأمني والسياسي بين الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، وهي ديناميكية ينظر إليها الغرب على أنها عامل استقرار في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط.
و خلال العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية الذي بدأ في عام 2002، حافظت تركيا على علاقات إيجابية مع إسرائيل على الرغم من الانتقادات اللاذعة لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وزار رئيس الوزراء آنذاك أردوغان إسرائيل في عام 2005، وفي أواخر عام 2008، عملت أنقرة كوسيط في محادثات السلام الاستكشافية بين سوريا وإسرائيل.
وتستمر السياسة التركية في تحقيق التوازن بين التعامل بين السلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالاً، والتي تميل إلى التعاون مع إسرائيل، وحركة حماس الأكثر تشدداً.
ومع ذلك، أظهر أردوغان، أكثر من الرؤساء أو رؤساء الوزراء الأتراك السابقين، اهتماماً عميقاً وشخصياً بالقضية الفلسطينية، وهو اهتمام له دلالات دينية وتاريخية وحضارية جعلت من الصعب الحفاظ على موقف متوازن، لكن منذ عام 2009، جعلت هذه العوامل تحقيق التوازن التركي مستحيلاً.
ودفعت العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ 2009 ضد مقاتلي حماس في غزة، أردوغان إلى إصدار انتقادات موسعة ومريرة لإسرائيل. وكان لهذه الانفجارات صدى في الداخل، لكنها قوضت احتمالات قيام تركيا بدور الوساطة أو تحقيق الاستقرار بين إسرائيل والفلسطينيين.
وجاءت الأولى بعد عملية الرصاص المصبوب في عام 2009، عندما واجه أردوغان الرئيس الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. وجاءت الثانية مع عملية الجرف الصامد عام 2014، والتي قارن خلالها أردوغان الهجوم الإسرائيلي بالفظائع التي ارتكبها أدولف هتلر.
وقد أنتجت العملية الإسرائيلية الأخيرة، التي انطلقت بعد الهجمات القاتلة التي شنتها حماس في 7 أكتوبر، خطابا أكثر وضوحا من أردوغان، الذي دعا إلى محاكمة إسرائيل على جرائم الحرب ووصف إسرائيل بأنها “دولة إرهابية” تسعى إلى القضاء على السكان الفلسطينيين.
وعلى الرغم من التقارير الكاذبة التي تفيد بأن أردوغان هدد بالتدخل العسكري في غزة، إلا أن خطاباته وتصريحاته النارية المناهضة لإسرائيل تتوافق تمامًا مع نمطه الخطابي خلال حروب غزة السابقة.
ويرى أوتزن أن افتقار أردوغان إلى التوازن بشأن غزة والفلسطينيين ينبع جزئياً من السياسة الداخلية، بما في ذلك الضغوط التي تمارسها العناصر الإسلامية والمعادية للغرب في ائتلافه السياسي للرد على إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن أغلبية الشعب التركي تؤيد قيام تركيا بدور وساطة أو دور محايد في الصراع بين إسرائيل وحماس، وعلى هذا فليس هناك أي ربح سياسي من دفع الحدود إلى الحد الذي يجعل تركيا لم تعد وسيطاً جديراً بالمصداقية.
وقد يكون الدافع وراء أردوغان أيضًا، هو الرغبة في تلميع أوراق اعتماده كزعيم للعالم الإسلامي وحامي المضطهدين في منطقته، وهي الروايات التي لعبت فيها القضية الفلسطينية دورا مركزيا ومتكررا.
ولم يكن أردوغان أول زعيم تركي يتهم إسرائيل علناً بارتكاب إبادة جماعية وفظائع ضد الفلسطينيين؛ وقد فعل سلفه كرئيس للوزراء، بولنت أجاويد، ذلك على وجه التحديد فيما يتعلق بسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون في عام 2002.
والأمر الأكثر لفتا للنظر في أردوغان هو استعداده ليس فقط لمخالفة علامته التجارية من خلال التخلي عن موقف متوازن في مناسبات متعددة على نفس القضية، ولكن أيضا لإبطال العمل المضني الذي قام به فريق السياسة الخارجية الخاص به لمتابعة المصالحة مع إسرائيل على مدى السنوات العديدة الماضية.
ويقول أوتزن أن أردوغان يعاني من ارتباط شخصي بالقضية الفلسطينية يمتد إلى ما هو أبعد من ميوله الأخرى في السياسة الخارجية، حيث أظهر مرونة أكبر بكثير في التعامل مع الأخيرة مقارنة بالأولى.
المصدر: صحيفة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.