سوريا تفقد شبابها.. عسكرة باتجاهين و”أزمة ديمغرافية عميقة”
دفعةٌ من دمشق باتجاه موسكو وأخرى انطلاقا من قاعدة “حميميم” وأرقام تتلوها أرقام لشبان سوريين أغراهم “المستقطب” للقتال في ليبيا وعلى جبهات أوكرانيا لصالح موسكو.. هذه التفاصيل يكاد لا ينقطع ترديدها عن مشهد سوريا الممزقة منذ عامين وازدادت وتيرة الكشف عنها على نحو كبير خلال الأيام الماضية.
وبينما تركّز الشبكات الإخبارية ووسائل الإعلام المحلية اهتمامها دائما على من يقود هؤلاء الشبان للارتزاق في الخارج ومن يقلهم بالطائرة ويستلمهم في الأراضي البعيدة، نادرا ما تتسلط الأضواء على الآثار “الكارثية” كما يعتبرها خبراء، إن كان على البلد أو المجتمع وحتى العائلة الواحدة.
آخر التقارير الإخبارية نشرتها شبكة “السويداء 24” المحلية، الخميس، وقالت نقلا عن مصادر إن روسيا نقلت 80 شابا سوريا من مطار دمشق الدولي، ليلة الأحد، إلى مطار موسكو، على أن تخضعهم للتدريب فور الوصول ومن ثم تزج بهم على جبهات أوكرانيا.
وجاء نشر التقرير بعد يوم واحد فقط من نشر “الاستخبارات الأوكرانية” قائمة قالت إنها توثّق 141 اسما لسوريين تم تجنيدهم كمرتزقة لصالح روسيا. ومع أنه لم يتم التأكد من الأسماء وصحتها أشارت الشبكة المحلية نقلا عن أربعة شبان قولهم إن قسما كبيرا من قائمة الأسماء تعود إلى “المرتزقة الذين ينتشرون في ليبيا”.
ولا يعلق النظام السوري على مثل هذه التقارير، رغم أن البعض من الحالات وثقها مستخدمون روس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهِر أحدها على تطبيق “تيليغرام” كاهنا روسيا خلال ترحيبه بسوري يقاتل في أوكرانيا.
كما وثقت تسجيلات مصورة أخرى عددا من الشبان السوريين وهم في أحد مراكز التجنيد في موسكو، وآخرين يجلسون داخل غرفة بينما يردد المسؤول عنهم أسئلة تتعلق بـ”الجنسية الروسية التي حصلوا عليها لقاء انخراطهم”.
ويرى مدير مركز “الشرق للدراسات”، سمير التقي، أن ما يحصل بشكل عملي هو “تفريغ سوريا مما تبقى من شبانها”.
ومن الواضح أن أزمة البطالة الحاصلة تحولت إلى “أزمة ديمغرافية عميقة، لدرجة أن بعض المناطق شهدت هروب جزء من الشباب ومقتل آخر، والآن يتم تجنيد من بقي منهم للقتال في الخارج”.
التقي يشير إلى أن العائلة السورية باتت تعيش في الوقت الحالي حالة من الترهل والانهيار الديمغرافي الكامل، بمعنى انقلاب النسب المتعلقة بعدد من هم تحت عمر الـ24 عاما، والذين عادة ما يشكلون أكثر من 45 بالمئة.
ويضيف لموقع “الحرة” أن عمليات التجنيد الحاصلة وخروج الشبان تفضي بآثار كارثية ليس فقط على صعيد مجتمعي بل على ما تبقى من اقتصاد محلي.
وقد يسفر خروج فئة الشباب للخارج في مرحلة لاحقة عن الوصول إلى حالة انهيار اقتصادي، وخاصة أنه من ظل في البلاد هم من كبار السن الذين يفضلون البقاء فقط.
وفي المقابل، يوضح التقي أن “نزيف فئة الشباب سيدفع في مرحلة لاحقة النساء إلى الانخراط في سوق العمل، ويجبر العائلة للهجرة نحو العاصمة دمشق”.
ودائما ما ترتبط عمليات تجنيد السوريين إلى الخارج بمغريات مادية، وتشير معظم التقارير إلى أن “المستقطبين” المحليين والمرتبطين بشركات أمنية يعرضون على الشبان مبالغ بالدولار.
وفي حالة الحرب الروسية الأوكرانية يبرز عنصر إضافة من ناحية “الإغراء”، وهي وعود الحصول على الجنسية الروسية.
وتعتقد ريما فليحان، وهي ناشطة حقوقية ومستشارة نفسية، أن “تجاذبات الأطراف الدولية تجاوزت حد الحرب بالوكالة داخل سوريا لتستقطب تجنيد الشبان السوريين في حروب خارج الحدود”.
وتقول لموقع “الحرة” إن ما يحصل “استمرار لإغراق الشباب السوري ضمن دوامة العنف”، وإن “التأثير سيكون خطيرا لأن هذا العنف الذي يشهده هؤلاء الشبان بالمشاركة في هذه الحروب سيولد صدمات نفسية غالبا”.
وقد تنتقل “التروما” (الصدمة النفسية) عبر الأجيال، وقد تمتد لعقود قادمة من حيث الأثر على الشبان أنفسهم وعلى أسرهم وأطفالهم بالمستقبل، حسب فليحان.
وتضيف أن ظاهرة التجنيد الكارثية من شأنها أن “تزيد حالة الشتات التي يعاني منها المجتمع وداخل الأسرة الواحدة”.
“الأسرة تفتقد هؤلاء الأبناء الذين يقدمون على مذبح الآخرين فداء لحروبهم العبثية التي لا تعني السوريين بشيء”، وفق تعبير المتحدثة ذاتها.
ورغم أن “التجنيد” في سوريا تتصدره في الوقت الحالي وقبل عامين الساحات الخارجية، تجري بهدوء ومنذ سنوات عمليات مشابهة لكن لصالح الميليشيات الموالية للنظام وداخل مؤسسته العسكرية أيضا.
وبعدما كان الكثير من الشبان يقصدون الانخراط بالميليشيات على نحو أكبر من الجيش الرسمي لاعتبارات تتعلق بالحوافز المالية أو المرتبطة بنوعية الخدمة أعلنت وزارة الدفاع التابعة للنظام السوري عدة مرات وخلال الشهرين الماضيين عروض تطوع وبمزايا تضاهي ما تقدمه “القوات الرديفة”.
وما سبق يراه خبراء يصب في سلوك واضح بات يعتمده النظام السوري من أجل “عسكرة المجتمع”، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
ويوضح الباحث المتخصص في العلاقات العسكرية المدنية بمركز “عمران”، محسن المصطفى، أن “الشبان في سوريا تم دفعهم نحو العسكرة منذ بدايات الثورة، وبالأخص من جهة النظام”.
ودائما ما كان الهاجس المادي أحد الأسباب الانضمام للمؤسسة العسكرية أو الميليشيات.
وفي وقت لاحق ومع انخفاض مستوى العمليات العسكرية بالتزامن مع انهيار كبير في سعر الصرف بدلا لافتا “التوجه نحو التطوع لصالح جهات خارجية، وكانت ليبيا أولى الوجهات ولاحقا روسيا بعد غزوها لأوكرانيا”، حسب ما يقول مصطفى لموقع “الحرة”.
ويضيف أن “تحول العسكرة لمهنة لشريحة كبيرة من السوريين سيؤدي لمشاكل على الصعيد التنموي”، بالإضافة إلى مشاكل أخرى في عدد من الخدمات كالصحة والتعليم وغيرها، وكذلك على الصعيد الاجتماعي، حيث ستسفر عن تفكك الأسر، على حد وصفه.
لماذا هذا التحوّل؟
وتعيش المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام منذ سنوات كارثة معيشية، وحتى الآن لا تزال حكومة النظام ترفع بالتدريج أسعار السلع التي يحتاجها المواطنون بشكل يومي، وآخرها الخبز.
وفي الشمال السوري حيث تسيطر فصائل المعارضة لا يختلف الواقع كثيرا، حيث يعيش السكان هناك وغالبيتهم من النازحين والمهجرين ظروفا صعبة، وفي ظل استمرار القصف وعدم وجود أي بوادر لوقف الحرب.
ومن جانب المناطق الخاضعة للنظام تعتبر العسكرة وجهة الكثيرين كونها لا تتطلب مستويات عالية من التعليم، كما يوضح الباحث مصطفى.
على سبيل المثال يُقبل التطوع في المؤسسة العسكرية الرسمية لسلك الضباط لمن تكون لديه شهادة ثانية بصرف النظر عن درجاته، بالإضافة للشروط الأخرى.
وما سبق يخالف ما يجب عليه أن يكون الضابط، والذي يفترض أن يكون ملمّا بشكل جيد بالرياضيات والفيزياء وغيرها من العلوم، كما يوضح الباحث.
ويتابع: “التجنيد يتم داخل سوريا وخارجها، وكثيرون يفضلون الخارج بسبب العائد المادي المرتفع وظروف خدمة ربما أفضل، مع مستويات مختلفة من الخطر”.
ولا يعارض النظام العملية، كونه مستفيدا منها بكافة الأحوال، كما أن “في الخارج لن يؤثر بشكل كبير على مستوى الموارد البشرية اللازمة له في المؤسسة العسكرية”، حسب مصطفى.
لا تعتبر قضية تجنيد سوريين للقتال في أوكرانيا جديدة، حيث سبق وأن نشرت وسائل إعلام الكثير عنها بين شهري مارس وأبريل عام 2022، وبعد شهر واحد فقط من بدء روسيا حربها ضد كييف.
وكذلك لا تقتصر على مناطق النظام رغم أنها تشهد رواجا في الوقت الحالي على نحو أكبر، حيث سبق وأن وثقت شبكات حقوقية عمليات تجنيد قادتها فصائل من المعارضة إلى ليبيا وأذربيجان.
ويرى الكاتب والناشط السياسي السوري، حسن النيفي، أن “قضية تجنيد السوريين خارج حدودهم الجغرافية لم تعد فقط ظاهرة خارجة عن المألوف، بل تحولت إلى مشكلة شديدة التعقيد”.
النيفي يشير إلى 2015 أي تاريخ التدخل الروسي في سوريا، ويقول لموقع “الحرة” إن “هذا العام كان بمثابة التأسيس لفقدان القرار الوطني وتقسيم البلاد لمناطق نفوذ وقوى أمر واقع”، وأنه من هنا تجب قراءة أسباب ما يجري الآن.
وترتبط ظاهرة التجنيد بالأساس بجذور سياسية، كما يعتقد الكاتب السوري، لكن آثارها وتداعياتها تنسحب إلى الشق الاجتماعي والاقتصادي.
ويقول: “من يتدافع للقتال في أذربيجان ومناطق أخرى وكذلك الذين يقاتلون في صفوف قسد (قوات سوريا الديمقراطية) أو مع الميليشيات الإيرانية وإلى أوكرانيا انطلاقا من مناطق النظام يذهبون بدافع الفقر”.
“هم شباب دون السن القانوني ويخضعون لظروف معيشية صعبة، ولا يمكن تجاهل فكرة أنهم نتاج بيئات اجتماعية بائسة فقيرة”، حسب ما يشير النيفي.
ويضيف “هؤلاء لم ترحمهم آلة الحرب مما جعلهم فريسة للجيوش الخارجية التي تتقاسم النفوذ في سوريا”.
ويعتقد مدير “الشرق للدراسات” سمير التقي، أن من يخرج للقتال في الخارج، ومن بينهم لأوكرانيا، “ستكون احتمالية عودتهم ضعيفة”، كون الجانب الروسي يزج بهم على جبهات القتال مباشرة، على خلاف أفراد القوات الخاصة.
ويؤكد على فكرة تتعلق بـ”وجود انهيار ديمغرافي سكاني كامل في سوريا، واقتصادي أيضا في ظل غياب أي بادرة لعودة الشباب، وهو ما سيزيد من حالة التداعي العام ليس على الدولة والسلطة، بل على كل الوجود السوري البشري”.
ومن الصعب إيجاد حل للمشكلة القائمة، كما يعتبر الكاتب والناشط السياسي حسن النيفي، ودون النظر إلى الجذور.
ويقول: “إذا لم يحدث أي تغيير حقيقي في سوريا وتعود السيادة لشعبها أعتقد أن المشكلة ستبقى في تفاقم مستمر”، في إشارة منه إلى ظاهرة التجنيد “الكارثية”.
المصدر: قناة الحرة
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.