تاريخ السياسة الأمريكية تجاه الكرد… دعم وتخلي في محطات مفصلية
لزكين إبراهيم_نورث بالس
يصادف شهر تشرين الأول الجاري الذكرى السنوية الأولى لمرور عام على آخر “خيانة أمريكية” بحق الكرد، وهذه المرة بحق الكرد في سوريا، هذه “الخيانة” فتحت الطريق أمام تركيا لاجتياح منطقتي سري كانيه/رأس العين وكري سبي/ تل أبيض وتهجير سكانها الأصليين منها، وكانت ضربة موجعة أفقدت الكرد نشوة الانتصارات والانجازات التي حققوها شمال شرق سوريا اثر هزيمتهم لداعش.
قلنا بأن الاجتياح التركي كانت نتيجة “آخر خيانة أمريكية” للكرد، وهي قد لاتكون الأخيرة، مثلما لم تكن الأولى، فلو أعدنا قلب صفحات التاريخ الحديث فقط، سنصادف عدداً من الأفعال المماثلة لأمريكا بحق الكرد منذ مطلع العشرينيات وحتى اليوم وسنلاحظ أنها كلها جاءت في مراحل مفصلية بالنسبة للقضية الكردية وتأتي بعد تحقيق الكرد لجملة من المكتسبات، لتعقبها تلك الضربة الأمريكية لتفقد الكرد تحقيق نصر حقيقي في قضيتهم أو حق تقرير مصيرهم كباقي الشعوب.
ولفهم حقيقة السياسات الأمريكية الخارجية، يجب أن نراجع تاريخ علاقاتها مع الكرد لنعرف من خلالها هل أمريكا دولة صاحبة قيم ومبادئ تسير لتحقيقها فعلاً أم أنها تستخدم تلك المبادئ كقناع لتمرير سياساتها، وهل تخليها عن الكرد يمكن تصنيفها في خانة “الخيانة” أم أنها “سياسة مصالح” لا تحتمل إدخال العواطف فيها؟.
سنسرد هنا سلسلة “خيانات” تعرض لها الكرد من قبل الحلفاء وعلى رأسهم أمريكا وسنلاحظ أنها كلها جاءت بمحطات مفصلية يكاد الكرد يحققون فيها طموحاتهم.
فالخيانة الأولى كانت في حقبة انهيار الإمبراطورية العثمانية حينها برزت قوة القومية الكردية وتحركت النخب الكردية لتحقيق طموحها بإقامة دولة مستقلة باسم “كردستان”، حتى أن الحلفاء الغربيين وضعوا تصوراً لها في معاهدة “سيفر” (Sèvres) التي فككت الإمبراطورية العثمانية بالكامل. وحينها قاوم الأتراك هذا التصور، وكانوا وقتها أيضاً أكثر أهمية بالنسبة لأمريكا من الكرد، فعمد الأمريكيون، مع البريطانيين إلى دعم معاهدة جديدة باسم (لوزان) عام 1923. والتي بموجبها قسمت بريطانيا العراق وسوريا، لكنها لم تتضمن أي بند يخص الكرد.
أما الطعنة الثانية كانت بعد الحرب العالمية الثانية، حين تولت الولايات المتحدة لعب الدور البريطاني كقوة استعمارية رئيسية في الشرق الأوسط. حينها دعمت وسلحت أمريكا الكرد في العراق بين عامي 1958 و1963 ضد رئيس العراق عبد الكريم قاسم لأنه لم يكن رجلاً مطيعاً لأمريكا، وبعد الانقلاب العسكري على قاسم، ووصول صدام حسين إلى الحكم قطعت الولايات المتحدة على الفور دعمها للكرد، بل أكثر من ذلك، زوّدت الحكومة العراقية الجديدة بالنابالم لاستخدامه في عملية قمع الكرد الذين انتفضوا مطالبين بحريتهم.
والثالثة كانت في السبعينيات، حين اقترب العراق من المدار السوفياتي، فكانت خطة إدارة نيكسون، بإشراف هنري كسينجر وبالتنسيق مع إيران الشاه – الحليف آنذاك – لتسليح كرد العراق وتحريكهم ضد الحكومة العراقية، ثم أتت لحظة “الخيانة”. عندما وقّع الشاه وصدام حسين “اتفاقية الجزائر” عام 1975، وكان من بين بنودها الأساسية قطع المساعدات عن الكرد، وفي ضوئها تحركت القوات العراقية شمالاً وارتكبت المجازر بحق الكرد، وقتذاك لم تكن مناشداتهم تصل إلى مسامع “الحلفاء الأمريكيين”، كما أظهرت رسالة الملا مصطفى البرزاني إلى كسينجر في ذلك الوقت.
والمرة الرابعة كانت في الثمانينيات، عندما ارتكب صدام حسين مجزرة إبادة جديدة بحق الكرد، كانت إدارة رونالد ريغان على علم باستخدامه أسلحة محرّمة، لكن نظراً لما كان يسببه وقتذاك من ضرر لإيران الإسلامية، عارضت جهود الكونغرس لفرض عقوبات على العراق وعاونتها في ذلك بعض وسائل الإعلام التي تجاهلت المجازر.
والخامسة في عهد بيل كلينتون، حيث كانت أمريكا تعتبر كرد العراق “الطيبون والمظلومون” لأنهم قُمعوا من قبل العدو صدام، لكن أخوتهم من كرد شمال تركيا كانوا “الأشرار” لأنهم يزعجون تركيا الحليفة للولايات المتحدة، وعليه أرسلت الأخيرة السلاح لحليفتها تركيا التي استخدمته لقتل الآلاف من الشعب الكردي وتدمير قراهم وتهجيرهم.
وفي مسلسل الخيانات المتواصل، فإن حلقة ترامب مع كرد سوريا هي الأحدث. فبعد أن خاضت “قوات سوريا الديمقراطية” معارك شرسة ضد “داعش” عامي 2014 و2015، ومع دخول التحالف الدولي بقيادة أمريكا عسكرياً إلى سوريا من بوابة معارك كوباني التي أدى فيها الكرد مقاومة أسطورية خلدها العالم، والتي انطلقوا منها بدعم من التحالف في معركة القضاء على تنظيم داعش الذي أصبح كابوساً للعالم. وبعد أن قدم الكرد آلاف الشهداء والضحايا جاءهم قرار ترامب المفاجئ بالانسحاب كطعنة قاتلة، حيث قال ترامب حينها : “ربما نكون بصدد مغادرة سوريا، لكننا لن نتخلى عن الكرد، وهم شعب مميز ومقاتلون رائعون”، لكن “شراكتنا مع تركيا في الناتو وفي التجارة جيدة جداً”. فحديثه كان التعبير الواضح والصارخ لحقيقة السياسة الأمريكية التي لا تهتم بالقيم والمبادئ والحريات والحقوق عندما يكون الحديث عن المكاسب والتجارة والمال.
هنا قد يتساءل المرء، ولكن ماذا عن القيم الأمريكية. ماذا عن مبدأ ويلسون في “حق تقرير المصير” ومبادئ كنيدي في “دعم أي صديق كان“؟ لماذا تضرب أمريكا هذه المبادئ عرض الحائط عندما يتعلق الأمر بالشعب الكردي؟ ألا يستحق الشعب الكردي حق تقرير مصيره كسائر الشعوب بنظرها؟ وألا يفترض عليها دعم الكرد كصديق بعد كل التضحيات التي قدموها في معارك هزيمة تنظيم داعش؟.
كان واضحاً من خلال سرد سلسلة “الخيانات” المتتالية تلك أن الأمريكيون حين يدعمون الكرد في إحدى المراحل لا يدعمونهم حتى يحققوا نصراً حاسماً، لأن الكرد الآخرين، الموجودين في دولة متحالفة مع أمريكا، ستراودهم أفكار “غير محبّذة” عن الحرية والاستقلال، لذا فإن أمريكا وبعد أن تحقق مبتغاها تشل حركة الكرد بخيانة جديدة وتضعفهم بعد مراحل القوة وتحقيق المكتسبات، لتحافظ بذلك على توازنات علاقاتها السياسية مع حلفائها من الدول التي تخشى من نيل الكرد لحقوقهم.
لذا لايمكن تصور أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة يجب أن تعكس القيم والمبادئ الأمريكية التي ينادون بها عل وسائل الإعلام، فالأمر يمكن أن يقاس على النقيض تماماً. وباختصار، كلما كانت الدولة تنتهك حقوق الإنسان وتقمع حرية الكلام وتسجن الصحفيين وتكون أقل علمانية وتسحق الحرية الدينية، كلما كانت حليفة مقربة للولايات المتحدة. وفي الحرب على الإرهاب غالباً ما تكون الأنظمة التي دعمت الإرهاب المتطرف هي التي تكون حليفة للولايات المتحدة، وظهر ذلك جلياً في الحرب على داعش المدعومة بشكل رئيسي من قبل تركيا، ومع ذلك ضلت تركيا الحليفة المفضلة لأمريكا.
وهنا قد يخطر ببالنا سؤال، لماذا لم يتعلم الكرد من تجارب الماضي، ولماذا عادوا ووثقوا بأمريكا من جديد؟
الجواب على هذا السؤال بسيط، هو أن الكرد يدركون تلك الحقيقة ولم ينسوا تاريخ الخيانات، ولم يثقوا بأمريكا يوماً، ولكن ينطبق عليهم المثل القائل “مجبر أخاك لابطل” فهم حين يعاودون التحالف مع أمريكا يكونون مخيرين بين خيارين لا ثالث لهما، إما الفناء أو البقاء إلى حين، لأن أمريكا وفي سياساتها مع الكرد، مثلما كانت تتخلى عنهم في محطات القوة المفصلية، فإنها بنفس الوقت كانت تعرض عليهم الدعم في محطات الضعف الأخيرة، حين لا يكون أمام الكرد المزيد من الوقت والخيارات، ومثالها الواضح كان حين عرض التحالف على كرد سوريا دعمهم في محاربة تنظيم داعش، حيث جاء العرض أثناء معارك مدينة كوباني، فحينها ضلت أمريكا تلتزم الصمت حتى شارفت كوباني على الوقوع كاملة بيد داعش، وفي تلك اللحظة الحرجة عرضت تقديم الدعم، ومن الطبيعي حينها أن الغريق لا يفاوض منقذه على أية شروط لقبول انقاذ حياته، حتى وإن كان يدرك أن هذا المنقذ سيتخلى عنه في مراحل متقدمة، ولكن يبقى خيار إطالة العمر أفضل من الموت المحتم.
ولكن ما يؤخذ على الكرد وتحسب عليهم نقطة ضعف وبأنهم لا يتعلمون من الأخطاء، هي أنهم حين تأتيهم فرصة الخلاص ويكونون في موقع القوة، تراهم مشتتين سياسياً وفي الكثير من الأحيان عسكرياً، ولا يلمون شملهم لتشكيل قوة موحدة يمكنها التأثير على الرأي العالمي، ولا يصنعون بوحدتهم ورقة قوة في المفاوضات مع خصومها، لذا تراهم يسقطون حين يفوتهم قطار المفاوضات السياسية والاتفاقيات الدولية.
ورغم أن كرد سوريا يحاولون حالياً منع تكرار ذلك الخطأ ويسعون لتوحيد صفوفهم، ولكن لازالت مفاوضاتهم تسير ببطء مقارنة مع التغيرات السياسية السريعة التي تشهدها العالم، وإن لم يستغلوا هذه المرحلة المفصلية والتاريخية ويوحدوا صفوفهم بأسرع وقت، فسيُلدغون من الجحر مرة أخرى، وسيتعرضون للخيانات مرات ومرات.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.