داعش بين العودة والتراجع
نجح تنظيم “داعش” الإرهابي في تنفيذ 3 عمليات خلال شهر أغسطس/آب الجاري، منها عملية نوعية راح ضحيتها نحو 33 جندياً، بعد الاعتداء على حافلة عسكرية كانت تقلهم على طريق دير الزور في الشرق السوري، ما طرح تساؤلاً حاول عودة التنظيم الأكثر تطرفاً للمشهد من جديد.
إلا أنه في الحقيقة، فإن “داعش” لم يغب عن المشهد “الجهادي” حتى يتكرر الحديث إزاء كل عملية إرهابية يقوم بتنفيذها عن عودته من جديد؛ فالتنظيم الإرهابي نجح في تنفيذ مئات العمليات النوعية منذ إعلان سقوط دويلته المزعومة، كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 22 مارس/آذار من عام 2019، وهو ما يحتم علينا البحث عن الإخفاقات التي وقع فيها التحالف الدولي في مواجهة التنظيم على مدار أكثر من 9 سنوات، وما ينبغي القيام به في ظل تنامي نشاطه خلال الفترة الحالية.
استمد “داعش” قوته من الجلبة التي أحدثها حول نفسه، حينما أغار على مدينة الموصل، ما ساعده في إقامة دويلته في 29 يونيو/حزيران من عام 2014. هذه الجلبة كان يُحدثها التتار قديمًا بهدف إخافة سكان المدن التي كانوا يقتحمونها عنوة؛ ولهذا أمعن في عمليات الذبح وإلقاء جثث معارضيه من فوق الجبال، لأنه كان في حاجة إلى بث الرعب في نفوس خصومه، لاعتقاده أن الهزيمة الداخلية ستؤدي به إلى هزيمة واقعية تقع على خصومه.
الرعب الذي صنعه “داعش” في مملكته المزعومة ساعده خمس سنوات كاملة في استتباب وجوده في المناطق التي سيطر عليها، ولعله اعتمد هذه الوسيلة بعد سقوط دويلته، فنجده مثلاً يقوم بالإغارة على سكان البادية السورية خاصة الذين كانوا يخرجون لجمع فطر الكمأة من أجل سد رمقهم، في طريقة معتادة للتنظيمات المتطرفة التي تبحث عن إرعاب خصومها من أجل إظهار قوة مزيفة.
يمكن حصر تراجع “داعش” على مستويين لا ثالث لهما؛ أولهما في انهيار دويلته قبل 4 سنوات؛ فالتنظيم الإرهابي الذي نجح في احتلال ثاني كبرى المدن العراقية بعد بغداد، تمكن من الاحتفاظ بوجوده فيها ثلاث سنوات كاملة، وعندما تم تحريرها في عام 2017، كان حاضرًا من خلال عملياته التي كانت تقوم بها الخلايا النشطة والخاملة بين الوقت والآخر.
المستوى الثاني الذي يمكن أن نقرأ من خلاله تراجع “داعش”، سقوط 4 خلفاء للتنظيم منذ عام 2019، آخرهم أبو الحسين الحسيني الهاشمي، الذي أُعلنت وفاته في 10 أغسطس/آب الجاري، وتعيين خليفة خامس يُدعى أبو حفص الهاشمي، فما دون ذلك يمكن قراءة تحركات التنظيم في سياق عودته المقلقة لمشهد العنف من جديد.
إن الحديث عن عودة “داعش” للعنف يعتبره البعض مسلكًا غير دقيق في فهم الظاهرة؛ فالتنظيم لم ينتهِ حتى يتمحور الحديث عن عودته؛ صحيح مر بإخفاقات وتراجع كبير خلال العامين الماضيين لكنه ما زال موجودًا ولا يمكن التقليل من خطره.
ولعل العمليات النوعية التي قام بتنفيذها مؤخرًا ليست دليلاً على وجود التنظيم فقط، لكن على قوته أيضًا، وهو ما يتطلب التفكير بشكل مختلف في مواجهته، التي بدأت مع تدشين التحالف الدولي بعد شهور من إعلان دويلته في عام 2014.
من الأخطاء التي وقع فيها المجتمع الدولي، أنه اكتفى فقط بإنشاء التحالف الدولي لمواجهة داعش، دون وجود استراتيجية لتلك المواجهة تكون مبنية على تفكيك أفكار التنظيم الإرهابي؛ فلا التحالف تعامل مع التنظيم على الأرض ولا سعى إلى تفكيك أفكاره المؤسسة بعد انهياره جغرافياً وفيزيائياً، ما جعل التعامل مع “داعش” يقتصر على الضربات الصاروخية فقط، دون الاشتباك معه على الأرض أو حتى مع الأفكار، وهذا ما دفعنا للتحذير من خطر “داعش” منذ أن كان يحتفل العالم بسقوط دولته قبل 4 سنوات.
وها نحن الآن نحذر من عودة جديدة للتنظيم قد تكون أقوى وأكثر خطرًا من تلك التي أطل بها في عام 2014، فإن لم يكن هناك تحرك إقليمي ودولي يُضاهي هذا الخطر فسوف تترك مأساة عودته.
نواة “داعش” ما زالت حيّة وتتنفس، وما زال التنظيم يجد دعمًا أو على الأقل لا تقوم الدول المعنية بمواجهته بما ينبغي أن تقوم به، وهنا يمكن القول إن داعش باقٍ بمفهوم التغلغل الذي نجح في تحقيقه خلال السنوات القليلة الماضية، فطالما أن الأفكار لم يتم تفكيكها، فسوف يعود التنظيم للواجهة أو يتم إحياؤه، وتبدو الأهمية في تفكيك الأفكار مع المواجهة المسلحة أمرًا بالغ الأثر.
لا أحد ينكر تراجع “داعش” منذ إعلان سقوط دويلته ومقتل الخليفة الأول للتنظيم والملقب بأبو بكر البغدادي، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019، حيث قُتل في عامين اثنين، ثلاثة خلفاء آخرين؛ هم على التوالي: أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، الذي قتل في فبراير/شباط من عام 2022، وأبو الحسين الهاشمي القرشي الذي قتل في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022، ثم الخليفة الرابع المقتول في أبريل/نيسان 2023، في استهداف لقيادات رفيعة المستوى، يُعني تراجع التنظيم، وليس انتهاءه!
وهنا نطلق صرخة بأنّ شيئًا ما يُعد للتنظيم، وأنّ شيئًا ما يُعده التنظيم في ظل قيادته الجديدة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا، وهو ما يتطلب مراقبة تحركاته والعمل على إجهاضها وفق استراتيجية للمواجهة يُراعى فيها تفكيك أفكاره وقطع تمويله والوقوف أمام خططه المستقبلية في أفريقيا أو حتى في منطقة الشرق الأوسط، مع الإمعان في استشراف مستقبل التنظيم وفق ما يفكر فيه.
وأخيرًا وليس آخرًا، لا بد من تحرك دولي لمواجهة كل تنظيمات العنف والتطرف، ولا بد أن يكون هذا التحرك مبنيًا على المصلحة الكلية للمجتمع الدولي، وأن تُراعى فيه ظروف وإمكانات كل دولة تُشارك في المواجهة، ولا بد من وضع آلية عقاب للدول التي تدعم هذه التنظيمات أو تسمح بنشاطها أو نشاط داعميها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.