هل تستعد إيران لتصعيد الحرب بالوكالة مع إسرائيل؟
تتجه الحرب في غزة نحو مزيدٍ من التوسع والتصعيد، ولم تنجح الجهود الدبلوماسية الرامية إلى التوصل لوقف مؤقت لإطلاق النار، وإرسال الغذاء والدواء إلى جنوب غزّة، حتى الآن. حيث يعيش سكان غزة كارثة إنسانية كبيرة في ظل حصار اقتصادي شديد لم يسبق له مثيل، ومن الممكن أن يتوسع نطاق هذه الكارثة، وتتحوّل إلى أحد أكبر الكوارث في القرن الحادي والعشرين.
منذ بدء ردّ الفعل الإسرائيلي الانتقامي الأعمى، كان هناك قلق من اتساع رقعة الحرب وامتدادها إلى جبهات أخرى، وبعثت الجمهورية الإسلامية منذ البداية، ضمن إطار دعمها الكامل للعمليات العسكرية والإرهابية التي تقوم بها “طوفان الأقصى”، رسالةً مفادها أنها لا تريد التدخل في الحرب، لكن بشرط عدم شنّ الجيش الإسرائيلي أي هجوم برّي على غزة. كما أرسلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رسالةً عبر وسطاء، أنهما لا ينويان الدخول في صراع مع إيران.
وعلى الرغم من تهديدات الحكومة الإسرائيلية، إلّا أنّها لمَّحت إلى دعمها للاستراتيجية الأمنية الغربية في الحد من اتساعّ مساحة الصراع. كما أنّ الإعلان المتكرر، من قِبل الغرب والمؤسسات الأمنية والعسكرية التابعة له، عن عدم وجود مؤشرات وأدلة على مشاركة الجمهورية الإسلامية في الهجوم العسكري، الذي شنّته حماس في7 تشرين الأول/أكتوبر- أكثر من كونه انعكاساً للواقع- هو تدبير سياسي لإقناع إيران بتجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وعدم توسيع رقعة الحرب بالوكالة مع الأخيرة.
وبطبيعة الحال، هددت الولايات المتحدة أيضاً، بأنّ استغلال الجمهورية الإسلامية لهذه الضربة الأمنية التي تلقتها إسرائيل، سيكون له عواقب وخيمة. كما حذَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مكالمة هاتفية مع إبراهيم رئيسي، من أيّ تصعيد أو توسيع للصراع، ولا سيّما في لبنان. وأصدرت وزارة الخارجية الألمانية تحذيراً مماثلاً. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد مارس، في منحىً مختلفٍ، الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وبيّن أنّ عدم توقف الحرب سيكون له عواقب سلبية على إسرائيل والشرق الأوسط. وشبّه، في تصريحٍ غير مسبوق، حصار إسرائيل لغزّة بحصار لينينغراد من قِبل الجيش الألماني النازي.
خلال الأسبوع الفائت، كان للجمهورية الإسلامية حضور نشط في المفاوضات الدبلوماسية، وقد أظهر سفر أمير عبد اللهيان إلى الدول العربية، وإجراء المفاوضات المباشرة مع قادة حزب الله وحماس، الجهود الحثيثة التي تبذلها الجمهورية لإفشال الضغوطات على غزّة وحماس.
وحذّر أمير عبد اللهيان، منذ البداية، من استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية الشديدة على غزّة. وصرّح علانيةً، أنّ الجمهورية الإسلامية لا يمكنها أن تظلّ غير مبالية، حيال ما يجري من أحداث. كما بيّن أنّ طلب الأخيرة هو وقف الحرب والتفاوض على تبادل الأسرى. وفي الوقت نفسه، بدأ حزب الله اللبناني باشتباكٍ محدودٍ مع إسرائيل، وقام بتنشيط الصراع على الحدود الشمالية لإسرائيل.
وخلال موقفه الأخير، المغاير، هدّد أمير عبد اللهيان قائلاً: “لقد بدأ الوقت ينفد لإيجاد الحلول السياسية في غزّة”. وأنّ “محور المقامة” لا يمكن له أن يبقى صامتاً.
وحذّرت “نورنيوز”، وهي وسيلة إعلامية مقرّبة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، في وقتٍ سابق، من أنه “إذا أخطأت إسرائيل ووقعت في فخّ الهجوم البرّي على غزّة، فإنّ عليها أن تترقّب المفاجأة الثانية بعد طوفان الأقصى”.
لقد ادّعى أمير عبد اللهيان من جهة، استقلالية “فصائل المقاومة” في اتخاذ القرار، وعدم تدخل إيران فيها، ولكن من جهةٍ أخرى، أعلن -في موقفٍ متناقض- أنّه “إذا لم ندافع عن غزّة اليوم، يجب علينا مواجهة القنابل الفوسفورية في مدننا… إنّها فرصة لنا أن يتم إيقافها في عقر دار الصهاينة”. جاءت هذه التصريحات على لسان عبد اللهيان، قبل أن يشير إلى تقييم حسن نصر الله المماثل، حول لبنان. وعليه؛ فإنّه يعترف بأنّ ما سيُقدم عليه حزب الله اللبناني أو الميليشيات الشيعية العراقية، سيكون بضوء أخضر وقرار من السلطات الإيرانية.
منذ الأيام الأولى لحرب غزّة، هدّد بعض مسؤولي الحشد الشعبي في العراق، ايضاً، بالتدخّل في حال استمرار الاشتباكات. فعلى سبيل المثال، قال الأمين العام لحركة النجباء، في حديث مع قادة حماس و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني”: إنّ “هذا الفصيل من محور المقاومة مستعدٌّ للدخول إلى ساحة المعركة في غزّة، ولن يتردّد في تقديم أيّ مساعدة”. وقد هدّد هذا الفصيل قائلاً: “نحنُ في انتظار إشارةٍ للدخول إلى ساحة غزّة”. وفي تصريحٍ مشابه، قال هادي العامري، الأمين العام لمنظمة بدر العراقية: “إذا تدخّلت واشنطن في المعركة بين النظام الصهيوني وفلسطين، فإنّنا سنستهدف كلّ النقاط الأمريكية”.
وفي وقتٍ سابق، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” نقلاً عن مسؤول إيراني، أنّه “إذا تعرّضت إيران لهجوم، فإنّها ستردّ بهجوم صاروخي على إسرائيل، من لبنان واليمن وإيران”.
وعليه؛ فقد أعدّت الجمهورية الإسلامية خطّتها من أجل التدخّل، وهي تتقدّم خطوةً خطوة إلى الأمام. وبطبيعة الحال، فإنّ حساباتها الأولية، حول التأثير الرادع للعدد المرتفع نسبياً للأسرى الإسرائيليين، واللجوء إلى أسلوب احتجاز الرهائن، لم تكن حسابات صحيحة، ولم يكن لها التأثير الرادع المنشود، ضد النهج الهجومي الانتقامي لإسرائيل.
في ظلّ الظروف القائمة، لا تقبل إسرائيل وحلفاؤها الغربيّون طلب الجمهورية الإسلامية، ومن جهة أخرى، ترغب الدول العربية، في قرارة نفسها، في دخول إيران على خطّ الصراع، حتى تُلحق تطوّرات الأحداث، الضرر بإسرائيل، ويتمّ إيجاد طريقة من أجل وقف إطلاق النّار. وقد دعت حماس، من جانبها، الجماعات الإسلامية، للانضمام إلى معركتها، بعد تنفيذها لعملية “طوفان الأقصى”.
إذا بدأت إسرائيل بهجومٍ بريٍّ وشيكٍ على قطاع غزّة، وتعرّضت حماس لضغوطاتٍ أكبر، فإنّ الجمهورية الإسلامية وشبكات القوّات المنضوية تحت لوائها، ستكون في مأزقٍ للقيام بردّ، وفي حال لم تقم بذلك، فأنّها ستُتّهم بالتضحية بحماس، واستخدامها كأداةٍ لها.
إنّ إلحاق الضرر بإسرائيل، في حال توسّع جبهات المعركة، يشكّل حافزاً وأملاً لإيران والقوات المتحالفة معها، في فتح جبهات الصراع، وجعل شمال إسرائيل غير آمن. وفي الوقت نفسه، فإنّ وجود الولايات المتحدة وبريطانيا هو للحدّ من تأثير فتح هذه الجبهات، وبالطبع لن يكون له تأثير رادع بشكلٍ كامل.
يبرز التناقض الآخر للجمهورية الإسلامية في ردّ فعلها على الهجوم البرّي الإسرائيلي (الوشيك) على غزّة. فهي تهتف، من جهة، مع قادة حماس، وتقول بأنّ الهجوم المذكور، سيكون فخّاً لإسرائيل، وأنّ إسرائيل ستكون في ورطة، ومن جهةٍ أخرى، تطلق التهديدات والتحذيرات، لعدم حدوث هذا الهجوم.
لكنّ تاريخ الجمهورية الإسلامية المليء بإطلاق التهديدات الفارغة، وتوخّيها للحذر، يجعل من المشكوك فيه أنّها تريد الدخول في الصراع، على نطاق واسع. كما أنّ ادّعاءها بحتمية حدوث الصراع، في حال استمرار حرب غزّة، هو غير مقبول، لأنّ من بدأ بهذه الحرب، بالأساس هي حماس، التي تحركّت بدعم وضوء أخضر من إيران.
وفي هذا السياق، يمكننا التوقعّ بأنّ ردّ الفعل المحتمل للجمهورية الإسلامية، سيكون في توسيع هجمات حزب الله اللبناني، وفتح جبهة جديدة، من خلال الميليشيات الشيعية العراقية في سوريا، حتى تجبر إسرائيل على إعادة النظر في هجماتها الانتقامية، أو الحدّ من نطاقها، في قطاع غزّة، من خلال الهجمات المنسّقة التي ستزيد الصراع تعقيداً.
في حقيقة الأمر، إنّ الهدف الرئيسي للجمهورية الإسلامية، هو إنقاذ حماس من السقوط في غزّة، وفقدان سيطرتها على تلك المنطقة. وبالتالي، فإنّ خسارة جزء من قوة حماس العسكرية، سيكون أمراً تتحمّله إيران، كما أنّ الخسائر البشرية الكبيرة في غزّة، لا تشكّل رادعاً لها، بل أن هؤلاء الضحايا يصبحون قوّةً داعمةً لإظهار المظلومية، وتضفي الشرعية على الهجمات المستقبلية، وذلك وفي إطار ثقافة الاستشهاد لدى الشيعة.
لكن الظروف المعقّدة، والمتغيّرات الخارجة عن السيطرة، لن تسمح للطرفين المعنيين بالمضيّ قُدُماً في خططهما كما يشاءان. كما أنّ الانتصار في حرب غزّة له أهمية استراتيجية بالنسبة لإسرائيل، ويتعلق هذا الانتصار بهيبتها، وهي لن ترضى بأي شيء أقلّ من إزالة حماس من البنية السياسية والإدارية لغزّة.
وفي هذا الوضع المعقّد، يمكن أن يؤدي التدخّل العسكري المحدود المباشر أو غير المباشر، من قِبل إيران، إلى حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط. وما يزال احتمال نشوب صراع مباشر بين إسرائيل وإيران قائماً وهو ليس مستحيلاً، رغم أنّه ما يزال ضعيفاً.
وبالنظر إلى محدودية قوة الردع لـ “القبة الحديدية” في صدّ الهجمات الصاروخية المتزامنة من لبنان وسوريا وغزّة، فمن المتوقّع أن تتولّى البوارج الأمريكية، وربّما البريطانية، مسؤولية إبطال الهجمات الصاروخية من سوريا ولبنان. وتعتبر مهاجمة الأهداف الأمريكية في العراق وسوريا، هي الأداة المرغوبة للجمهورية الإسلامية وحلفائها العسكريين، من أجل المنع والردع، والتي تُعتبر قدرتها على النجاح موضع شكّ. وفي المحصّلة، فإنّ القّوة العسكرية والاستخباراتية المتفوقة لإسرائيل والولايات المتحدة، لا تضمن هزيمة ووقف الهجمات من لبنان وسوريا، إذا استمرت حرب غزّة لفترة طويلة.
إنّ تزايد انعدام الأمن في إسرائيل، وعدد الضحايا المدنيين، وتعطيل الحياة اليومية في إسرائيل، هو نقطة أمل وارتكاز الجمهورية الإسلامية، وشبكة القوى المتحالفة معها. كما أنّ الجمهورية الإسلامية تعتمد أيضاً على دعم الرأي العام في الدول الإسلامية. وفي الوقت نفسه، فإنّ قلق المسؤولين الحكوميين في لبنان والعراق من التداعيات السلبية لحرب غزّة على أمنهم واقتصادهم، يشكّل تقييداً لحزب الله والحشد الشعبي، مما يضطرهما إلى مراعاة هذا العامل في حساباتهما.
ومن خلال رصد التطورات والأحداث، يتبيّن لنا أنّ يد “محور المقاومة” على الزناد، وأنّ هذه القوى تنتظر من مؤسسة الوليّ الفقيه في إيران أن تعطيها الأمر النهائي، على الرغم من أنّ حزب الله، بدأ منذ البداية باشتباكات محدودة، وما يزال مستمراً فيها.
لقد وصلت الأوضاع إلى حدٍّ، بحيث أنّ كلا الجانبين، رغم عدم رغبتهما في فتح جبهة جديدة، مجبران على الردّ لمنع الهزيمة. لقد كانت أبعاد عملية “طوفان الأقصى” واسعةً، لدرجة خلق احتمالات ظهور صراعات وتوترات جديدة في المنطقة.
إنّ إسرائيل مضطرة للردّ بقوة لإعادة موازين القوى إلى ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وترميم القوّة الأمنية. ومن جهةٍ أخرى، ليس أمام حماس وحلفائها- وذلك من وجهة نظرهم- سوى خوض صراع واسع النطاق، للحيلولة دون التراجع، وتثبيت المكتسبات المرجوّة.
لقد زاد التصدع في المجتمع الدولي، وتوجه روسيا والصين نحو الفلسطينيين، ومواجهتهما للنهج الغربي الداعم لإسرائيل، زاد بدوره من تعقيد الوضع، وصعّب على إسرائيل تحقيق أهدافها المنشودة.
في هذا الوضع، تبقى كلّ الاحتمالات قائمة، كما أنّ الجمهورية الإسلامية معرّضة لصراع مباشر مع الولايات المتحدة، ولدى إسرائيل، التي تدرك هذه المسألة، الرغبة في نشوب صراع عسكري بين إيران والولايات المتحدة. وبالتالي، فإنّ هذا العامل قد يكبح جماح الجمهورية الإسلامية، ويدفعها لأن تحدّ من أبعاد تدخل قواتها بالوكالة، وألّا تسمح أن يتسع الصراع إلى مستويات لا يمكن السيطرة عليه. وفي الوقت نفسه، لا ترغب إسرائيل في توسيع الصراع بشكل مباشر مع حزب الله اللبناني، والجمهورية الإسلامية، وتفضّل التركيز على صراعها مع حماس.
الكاتب: علي أفشاري
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.