واشنطن أمام فرصة لإعادة تشكيل التحالفات في الشرق الأوسط
نورث بالس
يرى محللون أن نهاية المرحلة الحالية من حرب غزة ستشكل بداية دفعة دبلوماسية أميركية كبيرة يمكن أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط إذا نجحت على الرغم من أن نافذة الفرصة ضيقة.
ويقول مايكل سينغ وهو زميل لين – سويغ في تقرير نشره معهد واشنطن إنه عندما اندلعت حرب غزة العام الماضي، سرعان ما أصبحت عائقاً رئيسياً أمام أجندة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
ويضيف سينغ أنه بناءً على اتفاقيات أبراهام التي أبرمتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كانت إدارة جو بايدن تأمل في تسهيل التطبيع الإسرائيلي مع المملكة العربية السعودية، مصحوبًا بمعاهدة دفاع أميركية تاريخية واتفاقية تعاون نووي مدني مع المملكة.
ولم تكن هذه الأجندة تتعلق فقط، أو حتى في المقام الأول، بتعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة، بل كانت تتعلق بتوجيه ضربة إستراتيجية لمحور “المقاومة” الذي تقوده إيران وتعزيز شبكة واشنطن من الشركاء الإقليميين وسط تصاعد المنافسة بين القوى العظمى على مستوى العالم.
ولم تؤد الحرب بالضرورة إلى إخراج هذه الأجندة عن مسارها، فقد أشارت الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية إلى اهتمامها المستمر بالمضي قدمًا في هذه الأجندة، لكن مع ذلك، فإن نافذة الفرصة ضيقة.
وتعتقد الرياض أنها تحتاج إلى رئيس ديمقراطي للحصول على موافقة الكونغرس على المعاهدة، لذا فإن الموعد النهائي المتوقع لها هو أواخر هذا الصيف نظراً للشكوك التي تحيط بالدورة الانتخابية الأميركية.
ولكن من الناحية الواقعية، لا يستطيع أي من الطرفين أن يبدأ الدبلوماسية النهائية اللازمة لإبرام هذه الاتفاقات إلى أن تهدأ المعارك الكبرى في غزة.
وفي ظل هذه القيود، ستحتاج إدارة بايدن إلى التوصل سريعًا إلى تفاصيل ليس اتفاقية واحدة فقط بل أربع اتفاقيات رئيسية: بشأن التطبيع الإسرائيلي السعودي، والعلاقات الدفاعية الأميركية – السعودية، والتعاون النووي المدني الأميركي – السعودي، ومستقبل العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية.
وسيتعين عليها أن تفعل ذلك بطريقة تتجنب إثارة حق النقض من جانب تل أبيب أو الرياض أو الكونغرس الأميركي.
كانت الاتفاقيات التي سعت واشنطن لإبرامها قبل الحرب ستمثل الخطوة الأكثر جرأة إلى الأمام في السلام العربي – الإسرائيلي منذ اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، مما أدى إلى قلب فكرة أن الاعتراف العربي الكامل لا يمكن أن يأتي إلا بعد السلام الإسرائيلي – الفلسطيني.
ومن المرجح أن التطبيع السعودي كان سيقود قطر والدول العربية الأخرى، وربما حتى الدول ذات الأغلبية المسلمة خارج المنطقة، إلى التوصل بسرعة إلى اتفاقاتها الخاصة مع إسرائيل.
وحملت معاهدة الدفاع الأميركية – السعودية المصاحبة وعدًا بإضفاء الطابع الرسمي على مكانة الرياض كشريك أميركي وإبعادها عن الصين، التي تتزايد طموحاتها في الشرق الأوسط. كما خلص السعوديون إلى أن معاهدة الدفاع والاتفاق النووي المدني من شأنهما أن يردعا إيران عن مهاجمتها أو استكمال سعيها للحصول على سلاح نووي، وأي منهما يمكن أن يزعزع استقرار المنطقة.
ومع ذلك، فإن كل واحدة من هذه الاتفاقيات الثلاث معقدة بما فيه الكفاية في حد ذاتها، ناهيك عن كونها جنبا إلى جنب.
ومن المرجح أن تركز معاهدة الدفاع على بند الدفاع المشترك على غرار المادة 5 من معاهدة التعاون والأمن المتبادل بين الولايات المتحدة واليابان.
وعلى الرغم من أن هذا البند لا يلزم أيّا من الطرفين بالتصرف، إلا أنه يقر بالحاجة إلى معالجة التهديدات الأمنية المشتركة.
ويواجه التصديق على مثل هذا الاتفاق احتمالات طويلة حتى في أفضل الظروف. وعلاوة على ذلك، يتطلب التصديق في مجلس الشيوخ سبعة وستين صوتا، ومن المفترض أن يواجه معارضة على جبهات متعددة من أعضاء مجلس الشيوخ الانعزاليين ، ومن أعضاء مجلس الشيوخ (معظمهم من الديمقراطيين) الذين ينتقدون سجل المملكة العربية السعودية في مجال حقوق الإنسان والسياسة الخارجية.
وحفزت المعارضة المرتقبة إلحاح الرياض، حيث يعتقد أن تأمين ما يكفي من أصوات الديمقراطيين يتطلب رئيسًا ديمقراطيًا للانخراط في ليّ الذراع السياسية.
وقد يكون الرئيس الجمهوري أكثر دعما ولكنه أقل قدرة على تأمين الأصوات اللازمة على اليسار، حتى في مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية.
والقطعتان الأخريان من هذه الثلاثية الدبلوماسية معقدتان للغاية أيضًا. من الناحية الفنية، لا يتطلب اتفاق التعاون النووي بين الولايات المتحدة والسعودية (المعروف باسم “اتفاقية 123” في اللغة الأميركية) موافقة الكونغرس ليدخل حيز التنفيذ.
ومع ذلك، يمكن حظره إذا أصدر الكونغرس قرارًا مشتركًا بعدم الموافقة، وهو سيناريو لا يمكن استبعاده إذا تضمن الاتفاق أحكامًا مثيرة للجدل مثل السماح للسعوديين بتخصيب اليورانيوم داخل حدودهم.
وأما بالنسبة للتطبيع الإسرائيلي – السعودي – الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه الثمن الذي دفعته الولايات المتحدة للاتفاقيتين الأخريين – فإن فوائده الدبلوماسية الهائلة يمكن أن تضعف على المدى القريب إذا كانت العملية تدريجية (على سبيل المثال، البدء بتبادل السفراء قبل الانتقال إلى العلاقات الاقتصادية أو الترتيبات السياحية).
ومع ذلك، على الرغم من تعقيد الاتفاقيتين الأخريين، فإن معاهدة الدفاع – وبالتالي التقويم السياسي الأميركي – يُنظر إليها على أنها تحديات.
سواء كان ذلك عن عمد أو عن طريق الصدفة المؤسفة، فإن الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر كان سبباً في عرقلة هذه الأجندة الدبلوماسية.
ومع ذلك، لا تزال الدول الثلاث حريصة على العودة إلى طاولة المفاوضات، ومع وجود حافز إضافي، وهو أن المضي قدمًا في التطبيع الإسرائيلي – السعودي الآن من شأنه أن يحرم إيران ورفاقها من فرصة المطالبة بانتصار إستراتيجي من هجوم حماس الشنيع.
وهذا أمر مهم ليس فقط لواشنطن وتل أبيب، بل وأيضاً للعواصم ذات الميول الغربية في جميع أنحاء العالم العربي.
وعلى الرغم من دعمهم للقضية الفلسطينية، فإن معظم زعماء المنطقة يشعرون بالقلق من النزعة الإسلامية التي تمثلها حماس ويظلون مقتنعين بأن طهران ووكلاءها يمثلون تهديدا خطيرا.
وقبل 7 أكتوبر، كان يُعتقد على نطاق واسع أن المملكة العربية السعودية ستصر على وجود مكون فلسطيني في التطبيع، لكنه كان أقل بكثير من إقامة دولة فورية أو حتى استئناف المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية.
ولكن بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، تغير ذلك بشكل كبير. وبسبب قلقها من الرأي العام المحلي والإقليمي، بدأت الرياض تطالب بخطوات “محددة زمنيا ولا رجعة فيها” نحو إقامة الدولة الفلسطينية، مصرة على أنها لن تكتفي بالعمل كالمعتاد في عملية السلام.
وعلى سبيل المثال، يبدو أن الزعماء العرب مصرون على أن الولايات المتحدة تعترف بالدولة الفلسطينية من جانب واحد عند بداية أي دفعة للسلام، دون انتظار موافقة إسرائيلية.
وغالباً ما يتم تأطير هذا الطلب باعتباره انعكاساً لنفاد الصبر العربي من المفاوضات السابقة التي أثبتت أنها تستغرق وقتاً طويلاً وغير مثمرة في نهاية المطاف. لكن الأرجح أن ذلك يعكس رغبة الرياض في إعادة مفاوضاتها مع الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح.
ويبدو أن صناع السياسات السعوديين يخشون من أن الرأي العام العربي لن يقبل اتفاق التطبيع دون تقديم تنازلات كبيرة بشأن الدولة الفلسطينية.
ويبدو أنهم يعتقدون أيضاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو أيّ من خلفائه المحتملين لن يوافقوا على مثل هذه التنازلات في المستقبل القريب، حيث من المفترض أن ينظر الرأي العام الإسرائيلي إليها باعتبارها مكافأة على الفظائع التي ارتكبت في السابع من أكتوبر.
ومع الرغبة في تشكيل حكومة إسرائيلية ترغب في متابعة عملية السلام، لا الرياض ولا واشنطن حريصتان على الإطاحة بنتنياهو، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى إجراء انتخابات ويأخذ الطرفين إلى ما بعد المواعيد النهائية المتصورة لإبرام التطبيع ومعاهدة الدفاع.
ولذلك ترى الرياض أن اعتراف الولايات المتحدة أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية هو حل جيد لهذه المعضلة، وهي خطوة رئيسية لا تتطلب إذعاناً إسرائيلياً.
ومع ذلك فإن الاعتراف أحادي الجانب يشكل خطوة سياسية غير حكيمة في الولايات المتحدة. ويمكن أن يؤدي إعلان دولة فلسطينية دون اتفاقيات بشأن حدودها أو عاصمتها أو علاقاتها الأمنية مع إسرائيل إلى تفاقم الوضع المتردي بالفعل بين الطرفين ويمهد الطريق لصراع أعمق.
ومن وجهة نظر إسرائيل فإن نتائج قراراتها بالانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000 ومن غزة في العام 2005 تثبت عدم جدوى الإعلان ببساطة عن حل المشكلة من دون التفاوض على ترتيبات للحفاظ على السلام.
على الرغم من هذه العقبات والقيود، فإن لدى الولايات المتحدة كل الأسباب لمواصلة المضي قدماً في أجندتها الدبلوماسية قبل 7 أكتوبر.
وبقدر ما كان يوم 7 أكتوبر يمثل جهداً من جانب المحور الإيراني لعرقلة هذه الأجندة، فإن لدى واشنطن الآن سبباً أعظم لمتابعة هذه الأجندة.
وعلى الرغم من أن أزمة غزة قد أدت إلى تعقيد الوضع، إلا أن التطبيع العربي مع إسرائيل لا يزال من الممكن أن يساعد في تعزيز السلام، بالإضافة إلى الترتيبات الرسمية بشأن الحدود والأمن ومسائل أخرى، فإن حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يتطلب أيضًا خطابًا للتعايش المشترك لمواجهة رواية حماس عن الغزو.
وكانت اتفاقيات أبراهام خطوة أولى جيدة نحو تحقيق هذه الأهداف، ومن شأن التطبيع الإسرائيلي – السعودي أن يوسع الأمر بقوة.
وسوف يتطلب تحقيق هذه الغاية اختيارات صعبة من كافة الأطراف. وقد تحتاج الولايات المتحدة وإسرائيل إلى قبول فكرة أن التطبيع السعودي سيستمر على مراحل وليس بضربة واحدة مثل اتفاقيات أبراهام.
ويتعين على الرياض والعواصم العربية الأخرى أن تقبل أن واشنطن لن تعترف بالدولة الفلسطينية قبل الأوان، ولكن فقط بعد إنجاز الكثير من العمل في مجالات الأمن والحكم والتعليم والقضايا الاقتصادية.
ويجب على جميع الأطراف أن تتقبل أنه بغض النظر عن مدى جديتها في العمل من أجل التوصل إلى تسوية، فإن أجندتها الطموحة قد لا تتوافق ببساطة مع التقويم السياسي الأميركي.
ورغم أن تأجيل هذه الاتفاقيات سيكون أمراً مؤسفاً، إلا أنه لن يكون مأساوياً، فمن غير المرجح أن يتراجع التقارب المتزايد بين الدول العربية وإسرائيل بسبب أيّ مبادرة دبلوماسية معينة أو صراع عسكري، حتى ولو كان مروعاً مثل حرب غزة بل إنه يمثل تتويجا لتحول جذري دام عقودا من الزمن، مع تقارب تصورات التهديد الإسرائيلي والعربي حتى مع عودة المنافسة بين القوى العظمى إلى المنطقة وتحول الاهتمام الأميركي بعيدا عن ذلك.
المصدر: صحيفة العرب
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.