NORTH PULSE NETWORK NPN

موجة ثورية جديدة ضد حكم الإسلاميين تنطلق من سوريا

نورث بالس

يمكن النظر إلى المظاهرات التي اندلعت في شمال سوريا وتطالب بإسقاط حكم هيئة تحرير الشام وقائدها أبي محمد الجولاني على أنها جولة جديدة من الرفض الجماهيري ضد مشروع الإسلاميين في السلطة بعد سنوات من انتفاضات واحتجاجات أسقطت حكم جماعة الإخوان في مصر.

وأكدت نوعية الهتافات والشعارات في المظاهرات التي وصلت إلى وسط مدينة إدلب المكتظة بالسكان وتزايد زخمها تدريجيا أن مساوئ حكم الجهاديين لا تختلف عن مثيلتها عند جماعة الإخوان، فمنتج النموذجين يبدو واحدا، ويتمثل في قمع المعارضين وإساءة معاملة النساء والمختلفين في العقيدة والافتقار لبرامج واقعية للإدارة وتحسين الأوضاع المعيشية.

وتعد هتافات المحتجين في شمال غرب سوريا ضد سلطة هيئة تحرير الشام الأشد والأوسع زخما قياسا بما سبقها، فالمطالبة بتنحي الجولاني تشبه الهتافات التي دوت في شوارع القاهرة ومدن أخرى قبل أكثر من عقد، وقريبة من تلك التي طالبت بسقوط حكم المرشد في مصر، وكانت إيذانا ببدء سقوط مشروع الإسلام السياسي في المنطقة.

وطالبت المظاهرات بتبييض السجون سيئة السمعة التي تشرف عليها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) ومحاسبة المعتدين بحق المعتقلين ووقف الظلم والاستبداد واحتكار القرار وحل جهاز الأمن العام، وتوعد منظموها باستمرار حراكهم إلى حين تنفيذ المطالب، مستنكرين سياسة الهيئة التي وصفوها بأنها أشبه بالنظام السوري وأفرعه الأمنية.

ولا يتوقف هذا التطور عند المغزى المحلي للاحتجاجات ودوافعها ذات الطابع الحقوقي والمعيشي معبرة عن رفض جماهيري لسلطة فاشلة ومستبدة، بل يعكس رفضا لمعادلة دعم من يُطلق عليهم “الجهاديون المعتدلون” أو على الأقل تجاهل تمكينهم من السلطة، كما رُفضت في السابق معادلة دعم من عُرفوا في الأوساط الغربية بالإسلاميين المعتدلين (جماعة الإخوان)، بحجة تمثيل نموذجهم الديني للسكان المحليين.

وراق النموذجان، أي حكم الإخوان ومن عُرفوا بالجهاديين المحليين، لبعض الأجهزة الأمنية والدوائر السياسية الغربية النافذة كشكل من أشكال السياسة الواقعية بهدف إحكام السيطرة على الفضاء العام ومنح التيارات الدينية فرصة الحكم لشغلها بمجتمعاتها وصرف أنظارها عن مخططاتها الخارجية وتقويض الإرهاب المُعولم، مع إصدار بعض الإدانات العرضية لانتهاكات حقوق الإنسان لإبراء الذمة وإراحة الضمير.

ولم تقبل الشعوب العربية صيغة التفرقة التي اعتمدتها الولايات المتحدة ودول غربية بين إسلاميين متشددين ومعتدلين التي بُني عليها استهداف تنظيم داعش وحده ومن ثم سقوط دولته، حيث عزلت بطريقتها الثورية نسخا عدة من الإسلام السياسي عن السلطة، قبل أن تبدأ جولة جديدة من التمرد على حكم الجهاديين في سوريا، في إشارة إلى معارضتها منح الغرب أجنحة داخل الإسلام السياسي صفة الاعتدال وفقا لمصالحه.

ويكمن العنصر الذي يجمع بين الإسلاميين والجهاديين المغضوب عليهم محليا في تسامح الولايات المتحدة وقوى دولية مع نماذج لا تهاجم الغرب وتصادف أنها ليست تنظيم الدولة الإسلامية، ما هيأ التعامل معها بوصفها معتدلة، ومكنها في حالة الإخوان من حكم دولة بحجم مصر، وفي حالة المنشقين عن داعش والقاعدة من السيطرة على منطقة إدلب.

وثبت عوار هذا التصنيف الذي لم يُراع سوى تحييد البراغماتيين ومن يحترفون المناورة من الإسلاميين والجهاديين، لتتمكن واشنطن من التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يُوصف بالعدو الحقيقي، دون مراعاة معاناة الملايين من البشر تحت حكم جهادي أو إسلامي قهري يحتكر السلطة بلا استحقاق أو امتلاك لقدرات وخبرات الحكم والإدارة.

وقبل أن تسيطر هيئة تحرير الشام على السلطة في شمال غرب سوريا لم يكن إرضاء واشنطن يمثل أولوية لديها، وهو ما صرح به قائدها أبومحمد الجولاني الذي قال في لقاء شهير على فضائية الجزيرة عام 2015 “نحن لا يهمنا ما يقوله الغرب عنا، لكن يهمنا أن نطبق شريعة الله عز وجل”.

واختلف الحال بعد فرض الهيئة سيطرتها على إدلب وحاجتها إلى عقد صفقة غير معلنة مع الغرب، حيث عكست مقابلة أجراها الصحافي الأميركي مارتن سميث مع أبي محمد الجولاني في يونيو 2022 حرص الأخير على كسب ود الغرب عبر إظهار حركته رقما مهما في مكافحة الإرهاب العابر للحدود وحامية للسكان المحليين، وعدم تشكيلها تهديدا للدول الغربية.

وزعم الجولاني أن سجون الهيئة خالية من الصحافيين والناشطين ولا تضم سوى عملاء النظام السوري أو عملاء روسيا أو أعضاء بتنظيم داعش وما أسماه بـ”اللصوص والمبتزين”، مسارعا بإطلاق سراح بعض الناشطين الأجانب مثل الصحافي الأميركي داريل فليبس المعروف باسم بلال عبدالكريم، في وقت أبقى فيه معارضيه ومنتقدي هيئته في الداخل.

وأكدت المظاهرات التي اندلعت مؤخرا ضد حكم الهيئة على ما أعلنته غالبية الأوساط المدنية والحقوقية بشأن إدلاء قائد هيئة تحرير الشام بأكاذيب عبر وسائل الإعلام لغسل سمعته وتلميع صورته أمام الغرب، فيما تم توثيق حالات تعذيب لمعارضين ومنشقين في معتقلات إدلب. وحمل بعض المتظاهرين الأرقام التي وثقتها المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، وتحصي مئات القتلى، ومنهم من قُتل تحت التعذيب، والآلاف ممن يقبعون في سجون الهيئة قيد الاحتجاز التعسفي.

وكرست هيئة تحرير الشام من خلال نموذجها في الشمال السوري مع حركة طالبان في أفغانستان الازدواجية التي اعتمدتها جماعة الإخوان كأسلوب عمل لها في الحكم، وتتعلق بالمزاوجة بين البراغماتية في التعامل مع الجهات الفاعلة الخارجية والجمود اللاهوتي داخليا والفشل الإداري. وصنفت الولايات المتحدة فقط من لا يستهدفها ويهاجم مصالحها بأنه معتدل لا مانع من التعاون معه، في الوقت الذي تجد فيه هذه الكيانات المتشددة في طريقة حكم داعش مصدر إلهام لها.

ولا توجد خطة واضحة لدى هيئة تحرير الشام للتخلص من وضعها المنبوذ في الداخل، فالانتفاضة ضدها تشمل فئات عديدة ومتنوعة من المجتمع، بينها مدنيون ناقمون على الأوضاع الاقتصادية، وغاضبون من تنامي القبضة الأمنية، ومنتسبون سابقون لفصائل فككتها الهيئة، ويشارك في المظاهرات أفراد من حزب التحرير وشباب ثوري يحلم بحكم مدني. ويفتقر أبومحمد الجولاني إلى رفاهية إجراء إصلاحات واسعة تمس صميم قناعاته الأيديولوجية، وتقديمه تنازلات في ما يخص تطبيق الشريعة يعطي فرصا أكبر لداعش لفرض نفسه بصفته من يحرس النموذج المتشدد

المصدر صحيفة العرب.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.