ما الذي أغضب داعش خراسان من روسيا

نورث بالس

لم تَعُد مسؤولية تنظيم داعش خراسان عن الهجوم الدموي في كروكس سيتي هول بالقرب من موسكو محل شك، حيث أجمع خبراء ومؤسسات أمنية وأجهزة استخبارات غربية وشواهد عديدة على ذلك، لكن لا يزال الغموض يكتنف مستوى الوحشية التي نُفذ بها الهجوم، وتساءل الكثيرون عن أسباب قيام التنظيم بالضرب في قلب موسكو بهذه القسوة؟

ولم يكتفِ داعش بإعلان مسؤوليته عن الهجوم الدموي الذي أودى بحياة أكثر من مائة وخمسين شخصًا وإصابة المئات في واحد من أسوأ الهجمات التي تشهدها موسكو منذ عام 2002، إنما نشر فيديو على منصاته الإلكترونية يُظهر كيف نفذ عناصره الهجوم وقتلوا بالرصاص والسكاكين بدم بارد العشرات من المدنيين العزل.

وذكر موقع “سايت” المتخصص في رصد التنظيمات الراديكالية المسلحة أن داعش نشر فيديو مدته دقيقة و31 ثانية يُظهر عددًا من الأشخاص وهم يمسكون بنادق هجومية وسكاكين داخل بهو قاعة الحفلات الموسيقية، وشُوهدت الجثث ملقاة على الأرض، وأمكن رؤية حريق يندلع في الخلفية.

ومن غير المرجح توظيف جهات غربية لسلاح الإرهاب ضد الروس، ويظل الترويج لهذه المزاعم في خانة الاتهامات غير المستندة على أدلة، إذ لا يصبّ وقوع روسيا في فخ الإرهاب في مصلحة المنافسين والخصوم الذين لن ينتظروا طويلًا حتى يتحول التنظيم التكفيري إلى استهدافهم.

ودفعت بعض المظالم التي يعاني منها مقاتلو داعش المنتمين لدول آسيا الوسطى بتنفيذ عملية كبيرة جرى الإعداد لها جيدا، هدفها التشويش على التفوق العسكري الروسي في الحرب الأوكرانية، والانتصار السياسي المتوقع عبر فوز الرئيس فلاديمير بوتين بالانتخابات الرئاسية.

وتقاطعت مصالح جهات غربية مع أهداف تنظيم داعش في السياقين العسكري والسياسي، لكن يصعب تصور تكرار خطيئة التحالف الغربي مع الجهاديين، فتجربة دعم المجاهدين العرب في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي ضد الاتحاد السوفييتي السابق ارتدت عكسيًا ونتجت عنها تهديدات إرهابية لقوى غربية، من قبل تنظيم القاعدة.

وسارعت الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة إلى إعلان التضامن مع روسيا فور وقوع الهجوم، والتنويه إلى تحذيرات أصدرتها الاستخبارات الأميركية بشأن إمكانية وقوع هجوم وشيك ضد تجمعات كبيرة، للتأكيد على التوحد الدولي ضد الإرهاب المشترك.

وينقم داعش على روسيا بسبب تعاونها مع حكومات دول في منطقة الساحل الأفريقي العسكرية وحرمان التنظيم من مناطق نفوذه وتقليص مكتسباته في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ما يُضاف إلى غضب التنظيم الناجم من إسهام موسكو في فقدانه سيطرته على عدد من معاقله.

وحيدت روسيا وحلفاؤها العسكريون في دول الساحل الأفريقي تنظيم القاعدة نسبيًا، وكثفت استهدافاتها لفروع داعش، ما صب في مصلحة جماعات موالية للقاعدة، وأضر بمصالح داعش الحيوية، حيث يعتبر التنظيم القارة الأفريقية أهم ساحات نشاطه التي تدر عليه عوائد مالية هائلة.

ويرمي داعش خراسان من وراء تنفيذ هجوم بهذا المستوى من الضخامة داخل العمق الروسي إلى تكريس اسمه كرقم أول في معادلة الإرهاب العابر للحدود وخلق توازن في النفوذ والقوة بينه وبين تنظيم القاعدة.

ومقابل التفوّق الذي أحرزه تنظيم القاعدة في بعض الساحات، يرى داعش أن كل نجاح يحرزه في سياق الاستيلاء على إرث الإرهاب المعولم من شأنه الخصم من رصيد منافسه، ما يمنحه قدرة على استقطاب عناصره ومعاودة التفوق عليه في مناطق صراعهما على الموارد والنفوذ خاصة في أفغانستان وأفريقيا.

ويُعد استهداف داعش لروسيا وإيران خطابا مُرسلا بعلم الوصول للجهاديين الساخطين على تنظيم القاعدة، على خلفية تهدئته مع قوى وأطراف تضطهد أهل السنة، ولديها تاريخ في محاربة الجماعات السنية المسلحة.

وبعث داعش خراسان رسائله للجهاديين الساخطين على تماهي تنظيم القاعدة وبعض التنظيمات السنية مع مصالح إيران وحلفائها عبر تنفيذ عمليات نوعية، بدأت في يناير الماضي عندما قتل أكثر من 100 شخص في موكب تأبين قاسم سليماني في منطقة كرامان، وأنهاها بهجومه غير المسبوق في العمق الروسي.

وتصطدم مصالح داعش خراسان في قلب معقله الرئيسي داخل أفغانستان مع مساعي الروس والإيرانيين لإقامة علاقات جيدة مع حركة طالبان الأفغانية، وكرر التنظيم اتهامه للاستخبارات الروسية والحرس الثوري الإيراني بتنفيذ عمليات مشتركة مع طالبان ضده، ومد الحركة الأفغانية بمعلومات مهمة منحتها في فترات معينة تفوقا ميدانيا.

ولا تخفى الأبعاد الإستراتيجية لداعش، حيث يخطط لعدم وراثة إيران وحلفائها ما كان للتنظيم من نفوذ وأراض في الشام، بالنظر إلى مشروع الإمبراطورية الإيرانية على حزام من الأرض يصل من طهران إلى بيروت، ويجد أن خلافته الموعودة في خراسان وآسيا الوسطى لن ترى النور إلا عبر زعزعة أمن واستقرار روسيا وإضعافها من الداخل.

ويهدف داعش إلى تشكيل خلافة أوسع بين دول وسط آسيا الإسلامية إلى جانب خراسان التاريخية (أفغانستان وباكستان)، مرورًا بطاجيكستان، ووصولًا إلى دول جنوب شرق آسيا، مثل الفلبين وماليزيا وإندونيسيا.

وشملت التساؤلات المطروحة إلى جانب الرغبة في معرفة أسباب إمعان داعش خراسان في الوحشية أثناء هجوم “كروكس سيتي” البحثَ عن أسرار التحول العملياتي على أداء داعش خراسان، فجميع عمليات التنظيم في قلب روسيا كانت محدودة ولا تنمّ عن امتلاك قدرات تخوله تنفيذ هجمات كبيرة.

وقُتل في الثالث من مارس الجاري ستة من أتباع التنظيم خلال إجراء أمني ضمن برنامج مكافحة الإرهاب بمدينة كارابولاك بجمهورية إنغوشيا الفيدرالية بروسيا، وثبت أن ثلاثة منهم متورطون في الهجوم الذي قتل فيه ثلاثة من ضباط الشرطة في مارس العام الماضي، علاوة على إحباط أجهزة الأمن الروسية بعد ذلك مباشرة لهجوم إرهابي على كنيس يهودي وتم قتل المهاجمين في كالوغا جنوب غربي موسكو.

وعكس هجوم “كروكس سيتي” نجاح داعش خراسان في تحقيق تدفقات مالية مكنته من تشكيل خلايا مدربة قادرة على تخطي التدابير الأمنية المعقدة، استنادًا إلى دوافعهم السياسية وقناعاتهم العقائدية ومنحهم مقابلًا ماديًا كبيرًا.

وبعد إعادة الهيكلة المحدودة التي أجراها زعيم داعش السابق أبوالحسن القرشي للولايات البعيدة، أجرى التنظيم إعادة هيكلة موسعة تضمنت دمجًا بين المكاتب المسؤولة عن ولاية خراسان وولاية شرق آسيا مع المكاتب المسؤولة عن تركيا والقوقاز وروسيا، ووضع ولاية القوقاز القوية تحت إشراف شهاب المهاجر (ثناءالله الغفاري) وهو القائد القوي لفرع داعش خراسان، ما أعطى زخمًا مُضاعفا للتنظيم.

وعززت الإصلاحات الإدارية الأخيرة من الترابط بين الفروع والولايات البعيدة لداعش، وفي القلب منها الفرع الأقوى داعش خراسان، وبينها وبين المركز، ما طور نسبيًا من عمليات التواصل والدعم اللوجيستي والمالي ومن طرق تجنيد الخلايا وتوجيهها إلكترونيًا.

ويقلل تعاظم خطر داعش خراسان من ثقة المجتمع الدولي ودول الجوار الأفغاني في حركة طالبان التي تعاني من انقسامات حادة وصلت حد استجواب مخابراتها لمقاتليها على خلفية الاشتباه بوجود صلات تربطهم بتنظيم داعش خراسان، فضلًا عن تنامي التوترات بين قيادة طالبان وأفراد الحركة من الطاجيك، حيث يوفر المقاتلون الطاجيك الغاضبون فرصًا أكبر لخصوم طالبان تتيح لهم قدرة أكبر على اختراقها.

وفشلت حركة طالبان في كسر شوكة داعش خراسان بالداخل الأفغاني، بينما يحرز التنظيم نجاحات مهمة في سياق تنفيذ عمليات انتقامية ضد حلفاء مُفترضين للحركة الأفغانية، والتسبب في موجة انشقاقات داخل صفوف طالبان الأفغانية ونظيرتها الباكستانية.

المصدر: صحيفة العرب